الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحلى بالآثار في شرح المجلى بالاختصار **
بسم الله الرحمن الرحيم فَرْضٌ عَلَى مَنْ أَوْدَعْت عِنْدَهُ وَدِيعَةً حِفْظُهَا وَرَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا إذَا طَلَبَهَا مِنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
فَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ، وَلاَ تَضْيِيعٍ لَهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لأََنَّهُ إذَا حَفِظَهَا وَلَمْ يَتَعَدَّ، وَلاَ ضَيَّعَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَصِفَةُ حِفْظِهَا هُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا مِنْ الْحِفْظِ مَا يَفْعَلُ بِمَالِهِ، وَأَنْ لاَ يُخَالِفَ فِيهَا مَا حَدَّ لَهُ صَاحِبُهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا حَدَّ لَهُ يَقِينُ هَلاَكِهَا: فَعَلَيْهِ حِفْظُهَا؛ لأََنَّ هَذَا هُوَ صِفَةُ الْحِفْظِ وَمَا عَدَاهُ هُوَ التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَإِنْ تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ أَوْ أَضَاعَهَا فَتَلِفَتْ لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، وَلَوْ تَعَدَّى عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَزِمَهُ ضَمَانُ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي تَعَدَّى فِيهِ فَقَطْ؛ لأََنَّهُ فِي الْإِضَاعَةِ أَيْضًا مُتَعَدٍّ لِمَا أُمِرَ بِهِ. وَالتَّعَدِّي هُوَ التَّجَاوُزُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَبِهَا خَاطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
وَالْقَوْلُ فِي هَلاَكِ الْوَدِيعَةِ أَوْ فِي رَدِّهَا إلَى صَاحِبِهَا، أَوْ فِي دَفْعِهَا إلَى مَنْ أَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِدَفْعِهَا إلَيْهِ: قَوْلُ الَّذِي أُودِعَتْ عِنْدَهُ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءً دُفِعَتْ إلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لأََنَّ مَالَهُ مُحَرَّمٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وُجُوبُ غَرَامَةٍ، وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى مِنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَهَهُنَا خِلاَفٌ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا أَنَّ مَالِكًا فَرَّقَ بَيْنَ الثِّقَةِ وَغَيْرِ الثِّقَةِ، فَرَأَى أَنْ لاَ يَمِينَ عَلَى الثِّقَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ثِقَةٍ وَغَيْرِ ثِقَةٍ، وَالْمَالِكِيُّونَ مُوَافِقُونَ لَنَا فِي أَنَّ نَصْرَانِيًّا، أَوْ يَهُودِيًّا، أَوْ فَاسِقًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُعْلِنًا لِلْفِسْقِ يَدَّعِي دَيْنًا عَلَى صَاحِبٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ: وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الصَّاحِبِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ دَعْوَى جَحْدِ الدِّينِ، وَبَيْنَ دَعْوَى جَحْدِ الْوَدِيعَةِ أَوْ تَضْيِيعِهَا، وَالْمُقْرَضُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا أُقْرِضَ، وَعَلَى مَا عُومِلَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْمُودَعَ مُؤْتَمَنٌ، وَلاَ فَرْقَ، وَفَرْقٌ أَيْضًا بَيْنَ الْوَدِيعَةِ تُدْفَعُ بِبَيِّنَةٍ وَبَيْنَهَا إذَا دُفِعَتْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَرَأَى إيجَابَ الضَّمَانِ فِيهَا إذَا دُفِعَتْ بِبَيِّنَةٍ وَهَذَا لاَ مَعْنَى لَهُ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ ذَلِكَ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَالأَيْمَانُ لاَ تَسْقُطُ، وَالْغَرَامَةُ لاَ تَجِبُ، إِلاَّ حَيْثُ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ حَيْثُ أَسْقَطَهَا اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ قَوْلِ الْمُودَعِ: هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ، فَصَدَّقُوهُ: إمَّا بِبَيِّنَةٍ وَأَمَّا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قَدْ صَرَفْتهَا إلَيْك: فَأَلْزَمُوهُ الضَّمَانَ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْتنِي بِدَفْعِهَا إلَى فُلاَنٍ فَضَمِنُوهُ. قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ ذَلِكَ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَالْوَجْهُ فِي هَذَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ الْمُودَعُ، مِمَّا يُسْقِطُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْغَرَامَةَ، وَلاَ تَخْرُجُ عَيْنُ الْوَدِيعَةِ عَنْ مِلْكِ الْمُودِعِ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لأََنَّ مَالَهُ مُحَرَّمٌ، إِلاَّ بِقُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ مَعْرُوفَةً لِلْمُودِعِ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِعِلْمِ الْحَاكِمِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِمَّا فَرَّقُوا بَيْنَهُ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْمُودَعُ شَيْئًا يَنْقُلُ بِهِ الْوَدِيعَةَ عَنْ مِلْكِ الْمُودِعِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ لاَ تُعْرَفُ لِلْمُودِعِ إِلاَّ بِقَوْلِ الْمُودَعِ، فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِبَيْعِهَا، أَوْ الصَّدَقَةِ بِهَا، أَوْ بِهِبَتِهَا، أَوْ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ، وَلاَ فَرْقَ؛ لأََنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيْءٍ فِي مَالِهِ، وَلاَ بِشَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ، لاَ بِدَيْنٍ، وَلاَ بِتَعَدٍّ، وَلاَ قَامَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِحَقٍّ، وَلاَ بِتَعَدٍّ، وَمَالُهُ مُحَرَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ مَعْرُوفَةَ الْعَيْنِ لِلْمُودِعِ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِعِلْمِ الْحَاكِمِ فَإِنَّ الْمُودَعَ مُدَّعٍ نَقْلَ مِلْكِ الْمُودِعِ عَنْهَا، فَلاَ يُصَدَّقُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَقَدْ أَقَرَّ حِينَئِذٍ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِمَا قَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ إذْ يَقُولُ: وَإِنْ لَقِيَ الْمُودِعُ مَنْ أَوْدَعَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَوْدَعَهُ فِيهِ مَا أَوْدَعَهُ، فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ الْوَدِيعَةِ، وَنَقْلُ الْوَدِيعَةِ بِالْحَمْلِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُودِعِ لاَ عَلَى الْمُودَعِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْمُودَعِ أَنْ لاَ يَمْنَعَهَا مِنْ صَاحِبِهَا فَقَطْ؛ لأََنَّ بَشَرَتَهُ وَمَالَهُ مُحَرَّمَانِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْغَاصِبِ، وَالْمُتَعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ، أَوْ غَيْرِهَا، وَأَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَرَدُّهُ عَلَى الْمُتَعَدِّي وَالْغَاصِبِ، وَأَخْذُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَى صَاحِبِهِ حَيْثُ لَقِيَهُ مِنْ بِلاَدِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأََنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْمَطْلِ فِي كُلِّ أَوَانٍ وَمَكَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
|